مقدمة
عرفت الساحة القانونية المغربية نقاشاً واسعاً بعد صدور قرار المحكمة الدستورية بشأن مشروع قانون المسطرة المدنية رقم 23.02، قرار رقم 255/25 بتاريخ 4 غشت 2025. فقد أبان هذا القرار عن أهمية الرقابة الدستورية المسبقة في حماية القيم الدستورية، وفضح في الآن نفسه جوانب قصور وضعف في المنهجية التشريعية لمراجعة قانون يعد العصب الأساسي للعمل القضائي وحماية الحقوق والحريات. هذا المقال يعالج بالدراسة والتحليل المحاور الكبرى التي أسس عليها قرار المحكمة الدستورية، ويستشرف ملامح المسطرة المدنية التي تتجاوب مع رهانات العدالة المغربية اليوم.
المحور الأول: خلفية القرار وسياق الإحالة الدستورية*
جاء قرار المحكمة الدستورية عقب إحالة رئيس مجلس النواب لمشروع قانون يعتبر تتويجاً لمسار طويل من الحوار حول تحديث العدالة المدنية. قراءة المحكمة للمواثيق الدستورية جاءت صارمة، حيث استندت إلى الفصلين 1 و107 من الدستور، اللذين يؤكدان سيادة القانون واستقلالية السلطة القضائية، كما استحضرت مبدأ الأمن القضائي وضرورة تكافؤ الوسائل أمام أطراف النزاع. بهذا التصور، انطلقت المحكمة من خلفية مفادها الحرص المطلق على احترام التوازن المؤسسي والحقوقي.
المحور الثاني: الأسباب الجوهرية لعدم الدستورية*
وقف قرار المحكمة على أوجه متعددة لمخالفة الدستور، يمكن تلخيصها في:
– المساس بمبدأ الأمن القضائي : إذ منحت بعض المواد (خاصة المادة 17 الفقرة الأولى) النيابة العامة سلطة هدم مقررات قضائية حائزة لقوة الشيء المقضي به، دون معايير محددة، ما شكل تهديداً خطيراً لاستقرار الأحكام النهائية.
–إضعاف ضمانات الدفاع وحق المواجهة: مثلما هو الحال في المادة 84 (فقرة رابعة) التي أجازت التبليغ القضائي على أسس ظرفية أو ظنية، بما يقوض الحق في إعلام فعلي وعادل.
– **توسيع الهيمنة التنفيذية على الشأن القضائي**: حيث اعتبرت المحكمة أن منح وزارة العدل تدبير النظام المعلوماتي القضائي (مواد 624 و628) مساساً باستقلال القضاء، باعتبار أن هذا التدبير لصيق بوظيفة السلطة القضائية وليس له ما يبرره دستورياً.
– انتقاص فصل السلطات: رفض مبدأ استفادة وزير العدل من حق الطعن في أحكام قضائية أمام محكمة النقض، لما لذلك من مساس بالتوازن السلطوي وتكريس لهيمنة الإدارة على الحق في التقاضي.
– إخلال بمبادئ المحاكمة العادلة : في المواد التي منعت الأطراف من الرد على ملاحظات المفوض الملكي، ما يتعارض جذرياً مع مبدأ المواجهة وحقوق الدفاع.
المحور الثالث: الأثر القانوني والتشريعي للقرار
قرار المحكمة لم يقتصر على إلغاء مواد، بل أصاب بنية النص التشريعي في المقتل، حيث أقر بأن الترابط بين مكونات قانون المسطرة المدنية يجعل انفراط عقده مع إلغاء هذا العدد الهائل من المواد أمراً محتماً. فعادت منظومة العدالة المدنية للعمل بالنص القديم، مما فرض إعادة صياغة عميقة ومضبوطة تستوفي الدقة الدستورية، وتستشرف المهام الجديدة للعدالة الرقمية، والتخصص القضائي، وضمان الأمن القانوني للمتقاضين والممارسين على حد سواء.
كما أرسل القرار رسالة قوية للفاعل التشريعي والتنفيذي بضرورة التشاور العميق مع القضاة، والمحامين، والخبراء، قبل صياغة أية مراجعة مستقبلية، مع ضرورة تحصين حق الدفاع واستقلال القضاء عن كل أشكال التدخل والإغراءات الظرفية.
المحور الرابع: تحديات استشراف قانون المسطرة المدنية المنشود
الوضعية الراهنة تضع جميع الفاعلين أمام استحقاق بناء مسطرة مدنية جديدة تليق بتطلعات دولة الحق والقانون. المطلوب اليوم:
– قانون يرسخ الأمن القضائي ويضع معايير دقيقة لاجتهادات النيابة العامة**، ويميز بوضوح بين سلطاتها وسلطات باقي الجهات الفاعلة.
– مسطرة تحقق عدالة المواجهة وحق الدفاع بشكل كامل، باعتماد التبليغ الفعلي والقابل للمراقبة والتحقق.
– تنزيل العدالة الرقمية وفق هندسة تحترم اختصاصات السلطة القضائية حصرياً، وتمنع عن السلطة التنفيذية أي تسرب لمواقع النفوذ على نظم تسيير القضايا.
– إشراك موسع لكافة المهن القضائية ومكونات المجتمع المدني الحقوقي في صياغة نص متوازن ومتجدد، يأخذ بعين الاعتبار سياق التطور الرقمي والاجتماعي المغربي.
– ضمان المرونة التشريعية وعدم الوقوع في فخ الحلول السريعة أو الجاهزة من أجل تمرير نص لا يرقى لطموحات وإكراهات العدالة المدنية** الراسخة والمنفتحة على إصلاحات متنامية.
ختاماً
يثبت قرار المحكمة الدستورية أن الإصلاح التشريعي الحقيقي لا يمكن أن يبنى بمنطق المقايسة أو التنازلات القطاعية، بل يجب أن يكون تعاقداً مجتمعياً يقطع مع التسرع والارتجال، وينفتح على ذكاء الممارسين وتجارب القضاة وحاجات المتقاضين.
المسطرة المدنية الجديدة يجب أن تصاغ بمنهجية تشاركية، تنتصر للمكتسبات الدستورية، وتؤمن الحماية الكاملة للأمن القضائي ولحقوق الدفاع. كما ينبغي أن تتجاوز اختلالات الماضي بتبني مقاربة واقعية، تأخذ بعين الاعتبار التحديات الرقمية والتقنية مع وضع ضمانات قائمة على الشفافية والاستقلالية.
فالمطلوب اليوم ليس فقط نصاً دستورياً متقدماً، وإنما مسطرة قادرة على مجاراة التحولات البنيوية للعدالة المغربية، نصٌ يكسب ثقة كل الفاعلين، ويعيد الأمل في منظومة قضائية حديثة، فعالة ومحايدة، تدافع عن المتقاضي وعن الحقوق والحريات في مغرب دستوري متجدد.
الاستاذ كريم الشرايبي