ذ. قاسم مرغاطا
في البداية، اسمحوا لي أن أذكِّرَ الحضورَ الكريمَ، بأننا نشاركُ، اليومَ، في فريق البحثِ في القصَّةِ والصورةِ، تكريماً لأستاذنا الأديبِ الملهمِ والمبدعِ الكبيرِ أحمد اليبوري بلقاء علميٍّ اخترنا له موضوعَ “أحمدَ اليبوري وتجديدُ الدرسِ الأدبيِّ بالمغرب”، ويشاركُ فيه نخبةٌ مخصوصةٌ من الباحثينَ الأعزاء، والذين تجمعُهُم مسألةٌ جوهريَّةٌ في هذا التكريمِ العلميِّ، وهي أنهُمْ جميعُهُم تذوَّقوا منابعَ الأدبِ والنقدِ والدراسةِ العليا على يديْ أستاذنا أحمد اليبوري في مراحلَ متنوعةٍ من الزمنِ الجامعيِّ المغربيِّ، ومنهمْ الأستاذُ والصديقُ الغالي علي القرشي، والأستاذُ والصديقُ الكبيرُ أحمد بوزفور، والأستاذُ والصّاحبُ والرفيقُ المصطفى جباري، وقاسم مرغاطا؛ أجيالٌ متواترةٌ من الباحثينَ الذين تتلمذوا على يديْ أستاذنا، وكلُّهم أجمعوا أمرَهُمْ على فرادةِ الأستاذِ والمربي عِلماً وخُلُقاً ومواقفَ. وقد اخترتُ، بهذه المناسبة، الوقوفَ على ملامح تشكُّل الدرسِ الأدبيِّ وصناعةِ القارئِ كما تلقيتُ ذلك من أستاذنا الملهمِ، مساهمةً مني في التعريفِ باليسيرٍ من مشروعهِ الأدبيِّ والعلميِّ الوطنيِّ الحديثِ، والذي صاغهُ بتفانٍ وإخلاصٍ وشجاعةٍ نادرةٍ.
في بدايةِ هذه الورقةِ، يسعدُنا أن نُقدِّمَ الشكرَ العميق للأصدقاءِ الأساتذةِ الباحثينَ في مختبر “السرديات والخطابات الثقافية”، وخاصةَ الأستاذ والصديق شعيب حليفي، الذين أتاحوا لنا إمكانَ عقدِ لقاءٍ حول تجربة أستاذنا وبلورةِ قراءاتٍ لأثره في الدرسِ الأدبيِّ بالمغربِ في مناسبة يتردَّدُ صداها بمختلف ربوع وطننا، في هذا اليوم الجميلِ، مع تمنياتنا لأستاذنا الجليلِ بالصحة والسلامة وطول العمر.
بنيتُ هذه الورقة على فكرةِ إمكانِ صناعةِ القارئِ الأدبيِّ في ضوءِ العلاقةِ العلميَّةِ والأدبيَّةِ والإنسانيَّةِ التي جمعتني بأستاذنا الكبير أحمد اليبوري، في مرحلةٍ دقيقةٍ من مراحلِ تشكُّلِ مساري العلميِّ بالجامعة المغربية، وخاصةً بجامعةِ محمدٍ الخامس، وهي العلاقةُ التي يمكنني النظرُ إليها في مستوياتٍ ذاتيَّةٍ وموضوعيَّةٍ.
في المستوى الذاتي:
عرفتُ أستاذَنا الكبير أحمد اليبوري، في نهايات ثمانينياتِ القرن الماضي، وبالذات، في شتنبر من سنة 1988، وهي المرحلةُ التي غادرتُ فيها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء في سنة 1988، بعد الحصول على شهادة الإجازةِ، وانتقلتُ إلى شعبة اللغة العربية وآدابها، بالرباط، بجامعة محمد الخامس، لاستكمال الدراسات العليا، ولتحضير شهادة استكمال الدروس، أو ما اصطُلحَ عليه، سابقاَ، بالدراسات المعمقة، وكان ذلك في مناخٍ ثقافيٍّ وفكريٍّ واجتماعيٍّ دقيقٍ وحاسمٍ في الجامعة المغربية التي لم تكنْ تسمحُ للطلبة باستكمال التكوين الجامعي العالي إلا بجامعة محمد الخامس، بالرباط، والتي يفِدُ إليها جميع طلبة المغرب بعد حصولهم على شهادة الإجازة، ويسعى بعضُهُم إلى الحرصِ على الاستمرار في التعلُّم والتكوينِ رغم الظروف العصيَّة، آنذاك، اجتماعيا واقتصاديا،. كانت جامعةُ الرباط، وكلية الآداب، فسيفساءً علميةً جامعةً لجميع بنات وأبناء المغرب الطامحين إلى الارتقاء العلمي والاجتماعي.
وكانت القامرة، محطة الحافلات الخاصة، بالرباط، فضاءَ اللقاءِ بين بنات وأبناء المغرب الفقراء الطامحين، ومنها يسيرونَ في الشارع الكبير، ويستظلونَ بشجرٍ وارفِ الظلالِ، للالتحاق بدرس أستاذنا الكبير أحمد اليبوري، فيقطعون مهرولينَ مسافات طويلة للوصول قبل دخول أستاذنا إلى القاعة.
كان لقاءُ أستاذنا، أحمد اليبوري، حدثاً استثنائياً في كل أسبوع، وكنا ندرك، آنذاك، ونحن القلَّةُ في التخصُّصِ هيمنةَ توجُّه عام، بكلية الرباط، وهو التوجهُ نحو الأدب القديم، خاصةً وأن الطلبةَ الباحثينَ كانوا يختارون هذا التخصصَ بغاية الانتفاع بارتفاع نِسَبِ النجاح؛ الذي قد يصل إلى مائتي طالب تقريباً في السنة، في مقابل العزوف عن الأدب الحديث، وتخصصِ الرواية على الخصوص، لتشدُّدِ أساتذتِهِ علمياً في نظر الطلبة؛ إذ لا يتجاوزُ عددُ الناجحين، في السنة، عشرين طالباً في مستوى الاختبار الكتابي، ويُحتفظُ بعد اجتياز الاختبارات الشفوية ومناقشة البحوث بعشَرَةِ طلبةٍ أو أكثر بقليلٍ، ولكُمْ أن تتخيلوا الفرق بين عَشَرَة ومائتيْ طالبٍ.
والغريبُ والجميلُ، في الوقتِ ذاتهِ، أن الأستاذينِ أحمد اليبوري ومحمد برادة هما صاحبا هذه النظرةِ العلميةِ المُدَقِّقَةِ والصارمةِ في الانتقاء الأوليِّ، وفي التكوين والتأطير في الأدب الحديث والرواية خاصةً، وهي النظرةُ التي لا تعترفُ بانتماءٍ سياسيٍّ أو عقديٍّ أو شخصيٍّ في الدرس الجامعي المغربي، والتي لا تسترفدُ من أيِّ نظرة خارجية إيديولوجية في البحث الأدبي والفكري، وهي الرؤيةُ الصارمةُ والملهمةُ التي لا ترى في التكوين العالي مجالاً لتكريسِ نظرةٍ تراثيةٍ جامدةٍ للماضي وللحاضر وللمستقبل، ولا تعترفُ بالسعيِ إلى تكوينِ جيلٍ من المتخرجين الأتباع، الذين سيحتلونَ الفضاءاتِ الجامعيَّةَ العموميَّةَ فيما بعد. كان الأستاذان الكبيران، معاً، حريصيْنِ على التكوين الجيد والصارم والمسؤول، وقد أجازف بالقول إن أحمد اليبوري كان أكثرَ شراسةً وصرامةً في الموقف العلميِّ حين يتعلق الأمر بالانتقاء والتقويم والتأطير، وقد أدركنا، لاحقاً، أبعادَ هذه الفلسفةِ الشفيفةِ والنزيهةِ التي ترى العلمَ والمعرفةَ استحقاقاً وبذْلاً في وطنِ الانتماءات الضيقةِ الحزبيةِ والعائليةِ والقبليةِ والعرقيةِ، وغيرها من الاعتبارات غير النزيهة.
هنا، أتذكرُ الكثيرَ من الوقائع في حضرة أستاذنا أحمد اليبوري الذي لم يتوانَ في أيِّ لحظةٍ عن دمقرطةِ التحصيل المعرفي والانتفاع العلمي، ولكن المقامَ لا يُسْعِفُ لذكرها، وربما أصدقائي في هذا اللقاء يعلمون الكثير والكثير من ذلك. كان أستاذنا كبيراً وشامخاً، وفوق أيِّ شُبهة علميةٍ أو مزايدةِ سياسيةٍ، وكان إذا أدرك جِدِّيَّتَكَ وسعيَكَ رغم وضعِكَ الاجتماعيِّ البئيسِ، آنذاك، لا يتوقف عن التشجيع والتحفيز. ولعل ما حصدناه، اليوم، من قيمِ الجدِّ والكفاحِ والنزاهةِ له فيها اليد الطولى البيضاء.
وفي المستوى الموضوعي:
تأتي مشاركتنا في هذه اللقاء تعبيراً عن تقديرنا للمسارِ العلميِّ والأدبيِّ الذي تشكَّلَ فيه الوعيُ النقديُّ والمنهجيُّ لأستاذنا الأديب والمبدع أحمد اليبوري، وما ميزهُ من غيره من المسارات النقدية والمنهجية المغربية في ثمانينيات القرن الماضي؛ خاصة وقد عاشت الجامعة المغربية، آنذاك، ضوضاءَ التعرُّفِ على المصطلحات والمفاهيم البنيوية والنظريات الشكلية الجديدة، وأصبح الجميعُ مصاباً بسُعارِ ترديدِها وممارستِها بتفاخرٍ وتكابرٍ، مُقابلَ الابتعاد الكليِّ عن نصوصِ الأدبِ ومتونِهِ الجميلةِ والمثيرةِ التي أصبحت، فقط، ذريعةً لتمرير المصطلحات والمفاهيم، وكأن المفاهيم ليست أدواتٍ مُنَسَّبَةً ومُتَخَلِّقَةً في نصوص أدبية، بل صارت المصطلحاتُ في تصور الباحثين المفرطين في حماستهم التغريبية قناعاتٍ ثابتةً وعقائدَ منهجيةً.
لم يكنْ أستاذنا الجليلَ أحمد اليبوري من هذه الطينة المتهافتةِ؛ ولم يكن يقبلُ هذا النوعَ من الوصايةِ النظريَّةِ والنقديَّةِ على دينامية الأدب وخصائصهِ النوعية الجميلة. إذ يمثل، أستاذنا، جيلا أساسيا في البحث الأدبي بالجامعة المغربية، وهو الجيل المدافع عن الأدب والنقد الحديثين، والمنافح عن إسهامات الثقافة المغربية في الثقافة العربية والإنسانية، وهو الأستاذ الذي عمَّقَ النظر إلى الدرس الأدبي والبحث العلمي ووجَّهَهُ نحو آفاقَ نظريةٍ ومنهجيةٍ حديثةٍ، ونحو مرجعياتٍ كونيةٍ، باستقراء مدونات الأدب وخصائصها قديمها وحديثها، بغرض توطينِ الممارسة الأدبية والنقدية الحديثة في التربة المعرفية المغربية، وذلك للتصدي للأطروحة النقدية التقليدية والدرس الجامعي التراثي من جهةٍ، ولتجاوز الخلفية المشرقية وآثارها التنقيصيَّةِ من جهةِ ثانيةِ، ولنقدِ الاستلابِ المنهجيِّ من جهة ثالثةٍ.
في هذا السياق الحارّ والمحتدمِ برز إسهامٌ صلبٌ ومشاكسٌ للأستاذ والأديب أحمد اليبوري الذي يعدُّ، بحقٍّ، من الرادةِ المؤسسين؛ إذ جَسَّدَ صورةَ المثقفِ الصلبِ والموقفيِّ الذي يخوض صراعا عميقا مع وجوه التقليدية دون السقوط في حداثة اغترابية. لكنَّ هذا الصراعَ ظلَّ غير منتهٍ وغير محسومٍ في ظل إكراهاتٍ خارجيةٍ قويةٍ تفوقُ الفرد وإمكاناته رغم البصمات العميقة التي شيدها الأستاذ والمناضل أحمد اليبوري في هذا السياق الملتبس؛ إذ ظلَّ يحملُ أستاذنا كثيرا من الآلام والمرارات التي تأتي حتى من جرابِ من ادعوا الحداثة والاستقلالية.
وها هي بعض الأصوات الشابة، في ثمانينيات القرن الماضي، لم تقف صامتةً أمام هذا الصراعِ الفكريِّ والموقفيِّ، بل تبِعتْ أستاذها، بشغفٍ وحماسٍ، واقتفتْ أثرَهُ بكل جديةٍ ومسؤوليةٍ. وها نحنُ نعيد إلى أستاذنا، في هذه اللحظةِ العلميةِ الاستثنائيةِ، جزءاً يسيراً ومتواضعاً من الأمانةِ الرمزيَّةِ التي حَمَّلَنا إياها، ونتمنى أن نكون خير أخلافٍ لأجملِ سلفٍ.
لقد اكتشفنا في أستاذنا أحمد اليبوري، من جهةٍ، نموذج المثقف المغربي الصلب والموقفيِّ الذي يطمح إلى تأسيس فعل ثقافي وفكري وجمالي يتلاءم مع التربة الثقافية والفكرية المغربية ومنابعها الوطنية وامتداداتها الإنسانية تدريساً وبحثاً ونقدا وكتابة إبداعية، لكنه الفعل الذي يقود إلى هذا الألم الفظيع والمرارة العميقة في الوعي المغربي الشقيِّ، ونحن نعيشُ، بصمتٍ وانسحابٍ، ما يتعرض له هذا الفعل النقدي التنويري من إجهاضٍ، ومعهُ إجهاضُ مشروعٍ مجتمعيٍّ يحاولُ تشييد ثقافة مغربية حديثةِ العناصر والمكونات، وإنسانيةِ الامتدادات والمنابع دون انغلاق أو استلاب.
واكتشفنا، من جهة ثانيةٍ، دورَ أستاذٍ مجدِّدٍ في الدرس الأدبي من خلال اعتباره مؤسسا رائدا ومسؤولا عن هذا الدرس الأدبي الحديث الذي يتفاعل مع الآداب العالمية ونظرياتها ومناهجها من جهة، ومع التصورات الأجناسية ونقودها بمرونة وسلاسة واجتهاد من جهة ثانية، دون السقوط في اجترار المفاهيم والمصطلحات، ليكونَ بذلك واحدا من مؤسسي النظر النقدي المنهجي المدرك للأبعاد النظرية والتطبيقية للمفاهيم النقدية؛ وليشكلَ إسهامُهُ النقدي جسراً واصلا نقديا مرنا وسلسا بين النظريات النقدية الغربية والأفق النقدي العربي والمغربي.
واكتشفنا، من جهةٍ ثالثةٍ، فكرةَ الباحث المسؤول والموقفيِّ الذي يتحركُ في ضوء ممارسة علمية ومعرفية واعيةٍ بالأسئلة الأدبية العامة المرتبطة بالأدب المغربي، ومُدركةٍ للعناصر الجمالية الخاصة بأجناس أدبية محددة، ومنها القصة التي خصّها أستاذنا بعمل فريد وملهم، والذي حظيت مجموعة الجث في القصة بالمغرب بشرف نشره وتقديمه للقراء بعد أن ظلَّ خارج دائرة التداول، رغم تشكيله لعمل تأسيسي في النظر للقصة المغربية تأسيسا وتجنُّسا. وقد كان هذا العمل الذي أنجزناه ردا متواضعاً لجميل أستاذٍ علمنا الكثير من القيم الراقية.
. نحن أمام أستاذٍ ملهمٍ صاحبِ مشروعٍ يتقاطعُ فيه العلميُّ والأدبيُّ والإنسانيُّ والنضاليُّ الوطنيُّ، ولسنا أمام مشروعِ أستاذ عاديٍّ ينتهي دورُهُ وإسهامُهُ عند تسويق اسمه وصورتِهِ وخلقِ أتباعِهِ بشكل غير أدبي، وربما، برهانات غير أدبية.
ـ ونحن أمام باحثٍ شغوفٍ ساعٍ إلى بناء فكر أدبي حديث يمنحُ الأدبَ قوةَ تمثيلِ الحياة، ويُعَمِّقُ دلالات السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ينهلُ منه ليرتفع إلى مستوى الدلالة الإنسانية؛ إذ تنبثق من الأدب غرابة قلقة تشير بصمت إلى تفاهة الطبقات العميقة للحياة الإنسانية وغموضها والتباسها.
إن أهم ملامح الجدَّةِ التي اكتشفناها في الدرس الجامعي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، على يد أستاذنا الكبير، تتجلى في تمكينِنا من اكتشاف نصوصٍ تعتبر أساسية وذات قيمة أدبية مركزية في الأدب الحديث، ومنها رواية “الأرض” لعبد الرحمان الشرقاوي، و”نجمة أغسطس” لصنع الله لإبراهيم، مما أثار رجة كبرى في أوساط الطلبة، وفي أفق تلقينا الذي كان يكابر بأسماء نقاد أجانب بدل النصوص. لقد حطم أفق تلقينا.
ولعل المتتبع لمشروع الباحث أحمد اليبوري، منذ هذه البدايات في الثمانينيات ووصولا إلى انشغالاته الفكرية الراهنة، يُدركُ هذه الحركةَ المعرفيةَ وأسئلتَها النقديةَ المتوترةَ ومنهجيَتَها الحديثة، وبذلك فهو ما يزال يتحرك في الدائرة المعرفية القلقة ذاتها مع إمكان توسيعها وتعميقها باستمرار، وهي أسئلة مليئة بالقلق المنهجي والتوتر المعرفي والجدة الاصطلاحية.
– وتختصُّ هذه الجدَّةُ بمهمة جوهرية في التجربة النقدية، وهي مهمةُ الحفرِ في العناصر “الجزئية” و”الصغيرة” و”الهامشية” و”الثانوية” في النص الأدبي، وهي العناصر التي قد يراها الكثيرون من نقاد الأدب لا تدخلُ في صناعة الأثر الكلي للنص. هنا، يحذرنا الأستاذ من النقد العام والقراءة الكلية التي لا تلتفت إلى عناصر التشكُّلِ النصيِّ الصغرى والدقيقة والخبيئة أسفل قشرة النص وتحت جلده، لأن هذا النقد العام يعتبر هذه العناصر، ببساطة، مكملات للوظيفة العامة للنص. لقد تعلمنا، بوضوحٍ، حرصَهُ على رفض التعليقاتِ العامةِ والنقود الشاملةِ التي يُعتقد أنها تَصلحُ لكل النصوص ولكل الأشكال والأجناس.
– والجدَّةُ، تأتي، أيضاً، من تنبيه أستاذنا في درسه، وفي كتاباته النقدية، إلى أن التلقي تعوَّدَ وأَلِفَ في الإنتاج الأدبي المكتمل الصنع إهمالَ سؤال جوهري متعلق بصيرورة تشكله، ومن ثم يبدو هذا النوع من المتلقي المطمئن والجاهز مكتفٍ بالاستمتاع بوجود المعنى العام كما لو أنه انبثق بضربة سحرية فجائية.
إن خاصية التلقي الأدبيِّ التي يقترحها، أستاذنا، أشبهَ بجدِّيَّةِ العملِ الحِرَفِيِّ أو جِدِّيَّةِ عمل الورشة الفنية؛ جِدِّيَّةِ المثابرة التي تبدأ أولا بتعلُّمِ التركيب المحكم للأجزاء الصغرى والدقيقة قبل العمل في النهاية على إنجاز الأشياء الكاملة الكبرى. القراءة في نظر، أستاذنا، دقيقةٌ وجزئيةٌ وتركيبيةٌ وليست عامةً أو كليةً أو جاهزةَ.
هذا، إذن، هو الأستاذ أحمد اليبوري كما عرفناه، في ثمانينيات القرن الماضي، وإلى حدود اليوم، واحداً من أبناء المغرب الخلَّصِ، وهو المتطلع، دائماً، إلى وطنٍ حرٍ وجامعةٍ حرةٍ تضيء المستقبل بالجمال والخيال والمعرفة التنويرية، لكنه، ربما، مستقبل مجهضٌ وبلا ملامح، وقد تكالبَ عليه الفسَدةُ والخونةُ والمطبّعون مع القبحٍ والقتلِ الماديِّ والرمزيِّ…
أستاذُنا العزيزُ ومعلِّمُنا الكبيرُ، أستاذُنا واحدٌ متعدِّدُ النظراتِ التجديديةِ والمواقفِ التاريخيَّةِ النَّوْعِيَّةِ، ندركُ معكَ أنه تعدُّدُ الحيرةِ والانشطارِ في زمن التردي والاندحارِ؛ فماذا يبقى من التجديدِ والمواقفِ الشجاعةِ، في سياق استمرار محاصرة المشروع الفكري المغربي التنويري الحر؟
أشياءٌ كثيرةٌ مرت في نهر حياتنا، منذ الثمانينيات إلى هذه اللحظةِ؛ فماذا أبقتْ لنا الأيامُ من إنسانيتنا المطحونة من أجل المستقبل؟ وعذرا، أستاذَنا ومعلمَنا، إن كان طموح مقاربةِ تجربتِكَ الأدبيَّةِ والعلميَّةِ والإنسانيَّةِ كبيراً، وإن كان في المقابلِ الزادُ قليلاً، مع تمنياتنا لكَ، ولكل أفرادِ عائلتِكَ الطيبةِ، بالصحةِ وطولِ العمرِ والتوفيقِ الخالصِ.